Menu

حولَ أزمةِ اليسارِ وإشكاليّةِ تماهي بعض فصائلِهِ مع اليمينِ وطروحاتِهِ السياسيّةِ والاجتماعيّة

عليان عليان

نشر هذا المقال في العدد 33 من مجلة الهدف الإلكترونية

بدايةً نشيرُ إلى أنّ الأحزابَ اليساريّة تبلّورت بشكلٍ قويٍّ وفاعلٍ في تيارينِ رئيسيّينِ في حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وهما (أوّلًا) الأحزاب والفصائل التي أعلنت التزامَها بفلسفةِ الماركسيّةِ ال لينين يّة، وتبنّت المنهجَ الماديَّ الجدليَّ في برامجها، وقراءتها للظواهر السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة و(ثانيًا) الناصريّة والأحزاب القوميّة التي تبنّت الاشتراكيّةَ، مثلَ حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ وحركة القوميّين العرب.

أزمةُ اليسارِ وأبعادها

وفي هذا المقال نتوقّف أمامَ القسم الأوّل من اليسار "اليسار الماركسيّ اللينينيّ" ونشيرُ ابتداءً إلى أنّ قوى هذا اليسار، عانت - ولا تزال - بشكلٍ خاصٍّ من أزمةٍ عميقة، حكمت تجربتها في إطارِ حركة التحرّر العربيّة منذ ثمانينات القرن الماضي؛ ارتباطًا بعددٍ من العوامل التي لا تفسّر أزمتها فحسب، بل تفسّر انحرافَ بعضها، وتغطية بعضٍ آخرَ لممارسات اليمين، وبهذا الصدد نتوقّف أمامَ بعضِ القضايا:

أوّلًا: البِنيةُ الطبقيّةُ للعديد من الأحزاب اليساريّة العربيّة في معظمها بِنيةٌ برجوازيّةٌ صغيرة، وهذه البنية  في السياق النضالي، عكست حالةَ من التردّد والتذبذب في مواقفها حيالَ العديد من القضايا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، لدرجة أنّها في مراحلَ معينةٍ وفّرت تغطيةً سياسيّةً لمواقف قوى اليمين ولنهجه الاقتصاديّ.

ثانيًا: افتقار العديد من الأحزاب اليساريّة العربيّة، إلى ملاكاتٍ فكريّةٍ قادرةٍ على قراءة المرحلة، واستشراف المستقبل واستخلاص البرامج المطلوبة التي لا تتقاطع مع برامج اليمين، في حين أنّها امتلكت سابقًا قياداتٍ وكوادرَ وطنيّةً مجرّبةً خاضت معاركَ مشرّفةً ضدَّ الاستعمار والأحلاف الاستعماريّة، وسجّلت مآثرَ في الصمود، وتحدّي الجلاد في الدول الرجعيّة.

  ثالثًا: تخلّف معظم هذه الأحزاب عن إدراك التحوّلات العميقة التي عصفت - وتعصف - بعالمنا المعاصر غداةَ انهيار الاتّحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة، ودخول العولمة الإمبرياليّة مرحلةً جديدةً في تطوّرها.

يضاف لذلك أنّ معظمَ  الأحزاب الشيوعيّة - مع بعض الاستثناءات -  شأنها شأن العديد من الأحزاب الشيوعيّة في مختلف دول العالم، لم تتجاوز صدمةَ انهيار الاتّحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكيّة، تجاهَ قراءة أسباب الانهيار بشكلٍ معمّق، ممثّلًا بشكلٍ رئيسيٍّ بالجمود العقائدي والبيروقراطيّة والسوفياتيّة، وفي الوقت ذاته لم تقدّم قراءةً نقديّةً لمسيرتها، ولم تراجع تجربتها في سياقٍ نقديٍّ بشأن ارتباطها بالطروحات السوفياتيّة، من أجل تحصين نفسها من هجمة الإمبرياليّة وأدواتها الرجعيّة، بعد أن راح منظرو الرأسماليّة يتبجّحون بفشل الاشتراكيّة في حلّ مشاكل الإنسانيّة، وبعد أن راح "فوكو ياما"  يتبجّح في مقالةٍ له "بأنّ الرأسماليّة هي نهايةُ التاريخ".

 رابعًا: ونظرًا للضعف الفكريّ الناجم عن ضعف البناء الأيديولوجيّ؛ أصبحت بعضُ هذه الأحزاب في  مهبَّ الريح إثرَ انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم تعد تحمل من "الشيوعيّة" سوى اسمها، وراح بعضها أيضًا يفرّق بين الجانب الأيديولوجي، وبين الجانب البرنامجيّ في إطار توجّهٍ يقضي بعدم اعتبار الأيديولوجيّة مرجعيّةً للبرامج المطروحة، وذلك في انعطافةٍ مكشوفةٍ  نحو الليبرالية، والتغطية الاقتصادية لنهج اليمين في ارتهانه لمؤسسات النهب الرأسمالية "صندوق النقد والبنك الدوليين"، ناهيك أن بعضها – وَفْقَ  بعض المنظّرين - باتت أحزابًا هرمةً ذات سياساتٍ تميل إلى المهادنة والتكيّف مع الأمر الواقع والقَبول بأقل القليل، بعد أن تجاوزت المبادئ اليسارية التي قامت من أجلها.

لكن ما يجبُ الإشارةُ إليه هنا أنّ ثمّةَ أحزابًا شيوعيّةً عربيّةً عملت على تجاوز محنة انهيار الاتحاد السوفياتي لاحقًا، عبرَ مراجعةٍ نقديةٍ نسبيًّا لتجربتها، وقراءة أسباب انهيار التجربة السوفياتية، وقدمت مساهماتٍ نظريّةً غنيّةً في قراءة الأزمة، وسبل تجاوزها من خلال مفكرين أدّوا دورًا مركزيًّا في هذا السياق، وأخصُّ بالذكر محمود أمين العالم في مصر ومهدي عامل وحسين مروة في لبنان وياسين الحافظ والياس مرقص في سورية.

عدمُ القدرةِ على التقاطِ اللحظةِ السياسيّة

  ما يجبُ  الإشارةُ  إليه أيضًا أنّ الأحزابَ الشيوعيّةَ في الوطن العربي، وفي مختلف دول العالم لم تتمكّن من التقاط اللحظة السياسيّة، التي لاحت مرّتين بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، التي لو تمَّ الإمساكُ بها  لكنّا أمامَ واقعٍ جديد، اللحظة الأولى  تمثّلت في أزمة 2008، المالية والاقتصادية الكبرى، التي ضربت الولايات المتحدة جرّاءَ فقاعة الرهن العقاري، وانتقلت بسرعةٍ هائلةٍ إلى بقية أرجاء العالم، مخلّفةً آثارًا اقتصاديةً خطيرةً دفعت النظام الرأسمالي إلى إعادة الاعتبار إلى الكينزية، والتخلّي لفترةٍ عن الليبرالية الجديدة، وكان من نتائجها دفع عشرات الملايين من العمال والمهنيين في العالم إلى خانة البطالة، حيث باتت الفرصة ملائمة لتعبئة الطبقة العاملة وقيادتها نحو التغيير، لكن الأحزاب اليسارية لم تلتقطها. 

أما اللحظةُ السياسيّةُ الثانية، فقد تبدت في ثورة الجماهير العفوية من العمال والفلاحين والمثقفين الوطنيين في كل من تونس (17 ديسمبر 2010) ومصر (25 يناير 2011) إذ إن عدم قيام الأحزاب اليسارية بدورها في قيادة الانتفاضتين ووضع برنامج لهما، أتاح الفرصة للإخوان المسلمين أن يتصدروا المشهد رغم عدم مشاركتهم الحقيقية فيهما.

فيما يتعلق بالعنوان المطروح نشير إلى مرحلتين؛ الأولى: مرحلة ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، والثانية ما بعد الانهيار، في المرحلة الأولى عملت بعض الفصائل اليسارية العربية ومن ضمنها بعض الفصائل اليسارية الفلسطينية، على تبني برامج وطروحات اليمين، بل وتظهيرها، مستخدمةً ما تيسّر لها من قدراتٍ نظريةٍ قبل أن يبوح بها اليمين نفسه، وعمل البعض الآخر من اليسار على رفض برامج اليمين في سياقٍ إصلاحيٍّ متبنّيًاَ نضالاتٍ مطلبيّةً في سياقٍ نقابيٍّ وبرلماني.

  في المرحلة الأولى، أرادت بعض فصائل اليسار أن تحقق بعض الامتيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لها على حساب المبادئ، في علاقتها مع أحزاب البرجوازية الوطنية الحاكمة، هذا كله من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ هذا البعض اليساري رأى في موقف الاتحاد السوفياتي من التسوية والصراع العربي، وشبه المتطابق مع طروحات هذه الأنظمة ما يسند مواقفه ويرفع عنه شبهة خدمة اليمين وبرامجه.

بعض اليسار الفلسطيني يوفر التغطية النظرية والسياسية لنهج اليمين وتغطية بعض فصائل اليسار لمواقف اليمين أكثر ما ينطبق على الساحة الفلسطينية قبل حرب تشرين (أكتوبر) 1973، وبعدها مباشرة، إذ انبرى فصيلان من اليسار الفلسطيني لتبرير توجّه اليمين الفلسطيني نحو التسوية؛ وهما الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية. فبرنامج الجبهة الوطنية المتحدة، الذي طرحه فرع الحزب الشيوعي الأردني في الضفة الغربية، بشأن موضوع التفريق بين تسويةٍ وطنيّةٍ وتسويةٍ استسلاميّةٍ عام 1973، لم يكن معزولًاً عن التنسيق مع قيادة فتح، بل وبتوجيهٍ منها. وقد ذهب بعض المحللين والمفكرين الفلسطينيين، إلى القول: إنّ طروحات المرحليّة بعد حرب تشرين (أكتوبر) 1973، وبرنامج "النقاط العشر" الذي اصطلح على تسميته "بالبرنامج المرحلي" الذي تبناه المجلس الوطني في دورته رقم (12) هو في الأساس برنامج حركة فتح، والجبهة الديمقراطية تطوّعت للتنظير له.

وبهذا الصدد يقول المفكّر غازي الصوراني: "برنامج النقاط العشر هو برنامج قيادة فتح رغم إصداره من قبل الجبهة الديمقراطيّة، وعلى الرغم من اعتراض تنظيماتٍ أخرى، فقد وافق بعضها، وتكيّف الباقي رويدًا رويدًا مع ذلك البرنامج، وكان بمثابة المدخل الأوّل صوبَ مداخيل التسوية اللاحقة في مسار منظّمة التحرير وحركة فتح".

وتقتضي الموضوعيّةُ القول أيضًا: إنّ اليسار الفلسطينيّ بكلّ فصائلِهِ غطّى لاحقًا برنامج اليمين  ممثّلًا "بالمبادرة  السياسيّة" الصادرة عن دورة الانتفاضة "الدورة 19 للمجلس الوطنيّ الفلسطينيّ" عام 1988، التي انطوت على الاعتراف  بقرار مجلس الأمن رقم 242 "، في حين أبدت الجبهة الشعبيّة تحفّظها على القرار 242، دون أن تنسحب من اللجنة التنفيذيّة على غرار ما فعلته بعد طرح برنامج النقاط العشر عام 1974، علمًا أنّ اليمين الفلسطيني وظّف تلك المبادرة لاحقًا تجاه خلق المقدّمات السياسيّة للولوج إلى اتفاقيّات أوسلو ، عبرَ الموافقة على الاعتراف بالكيان الصهيونيّ وعلى نبذ الإرهاب (المقاومة) موجّهًا بذلك أكبرَ ضربةٍ للشعب الفلسطيني في انتفاضته غير المسبوقة" انتفاضة الحجارة" وأهدافها الوطنية.

وفي مرحلةٍ لاحقةٍ بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، وما آلت إليهِ الأوضاع في العراق بعد العدوان  الثلاثينيّ عام 1991، حدّدت الجبهتان الشعبيّة والديمقراطيّة موقفًا رافضًا لاتفاقيّات أوسلو  1993، ووصفتا في أدبيّاتهما الاتفاقيّات بأنّها مشروعُ تصفيةٍ للقضيّة الفلسطينيّة، كما أنّ  حزبَ الشعب الفلسطينيّ هو الآخرُ حدّد موقفًا نقديًّا منها، في حين أنّ حركة "فدا" التي انشقّت عن الجبهة الديمقراطيّة بقيادة ياسر عبد ربه عام 1990،  فقد عملت على تغطية  وتبني موقف اليمين الفلسطيني بشأن هذه الاتفاقيّات.

لكن فصائل اليسار الفلسطينيّ رغم رفضها لاتفاقيّات أوسلو، إلا أنّها اندغمت لاحقًا في مخرجاتها، من خلال مشاركتها في انتخابات المجلس التشريعي، ومشاركتها في حكومات السلطة الفلسطينيّة المتعاقبة، باستثناء الجبهة الشعبيّة، التي رفضت - ولا تزال ترفض حتى اللحظة - المشاركة في أيٍّ من تلك الحكومات.

الأحزابُ الشيوعيّةُ العربيّةُ قبل وبعد انهيار الاتّحاد السوفياتي

ما يجبُ الإشارةُ إليهِ هنا، أنّ الأحزابَ الشيوعيّةَ العربيّةَ في مرحلة الاتّحاد السوفياتي تأثّرت بشكلٍ كبيرٍ باستراتيجيّته وطروحاته في مسألة التعايش السلميّ، وغلب على برامجها الطابع الإصلاحي في إطار النضال البرلماني والنقابي، الذي لا يفضي إلى التغيير الجذري، هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّها لم تأخذ بنهج المقاومة المسلّحة في مواجهة الاحتلال، ولم تدعم هذا النهج – باستثناء الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ - وركّزت على التسوية وَفْقَ قرارات الشرعيّة الدوليّة، متماهيةً بذلك مع نهج الأنظمة الرجعيّة والوطنيّة التي تتبنّى نهج التسوية. هذا كلُّهُ من جانب، ومن جانبٍ آخر، فإنّ علاقةَ الأحزاب الشيوعيّة مع الأنظمة الوطنيّة في المشرق العربيّ اتّخذت في بعضها طابعًا دمويًّا وتصادميًّا، وفي البعض الآخر طابعًا تحالفيًّا، حيث انشدّت في تحالفها للتناقض الرئيسيّ مع العدوّ الصهيونيّ والقوى الرجعيّة العربيّة والمحليّة، وهذا طرحٌ صائبٌ لكنها غيّبت قانونًا أساسيًّا آخرَ، ألا وهو قانون "التحالف والصراع" إذ استبدلت موضوع الصراع حول بعض القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسة الخارجية أحيانًا، بالصمت أو التعبير النقديّ الهادئ، وهي بذلك وفّرت غطاءً سياسيًّا للعديد من القضايا لهذه الأنظمة.

الأخطر من ذلك أنّنا رأينا حزبًا عريقًا، مثل الحزب الشيوعيّ العراقي، يدخلُ بعد احتلال العراق عام 2003، في اللعبة السياسيّة التي أدارها "بول بريمر" - الحاكم العسكريّ الأمريكيّ للعراق آنذاك - مشكّلًا تغطيّةً سياسيّةً لنظام الحكم الطائفيّ، التي هي في التحليل النهائي تغطية للدستور التقسيمي الذي صاغه الصهيونيّ ناحوم فيلدمان.